Monday, February 23, 2015

فرعونيون وعرب



فرعونيون وعرب
عفاالله عن كتابنا الصحفيين. ما أقدرهم على ان يثيروا عاصفة من غيرريح، ويبعثوا حربا من غيرجند.
حلا لبعضهم ذات يوم ان يكون بيز نطيا يجادل في الدجاجة والبيضة أيتهما أصل الأخرى . فقال على هذاالقياس أفرعونيون نحن أم عرب ؟ أنقيم ثقافتنا على الفرعونية أم نقيمها على العربية؟
نعم قالوا ذلك القول وجادلوا فيه جدال من أعطي أزمة النفوس وأعنة الاهواء يقول لها كوني فرعونية فتكون ، أو كوني عربية فتكون . ثم اشتهر بالرأي الفرعوني اثنان او ثلاثة من رجال الجدل وساسة الكلام ، فبسطوه في المقالات، وأيوه بالمناظرات ،وبددوه في المحادثات،حتى ظن بنو الأعمام  في العراق والشام أن الأمرجد ، وأن الفكرة عقيدة وأن ثلاثة من الكتاب أمة ، وأن مصر ، رأس البلاد العربية قد جعلت المآذن مسلات، والمساجد معابد ، والكنائس هيا كل ، والعلماء كهنة.
مهلا بني قومنا ، لاتعتدوا بشهوة الجدل على الحق. ورويدا بني عمنا لاتسيئوا بقسوة الظن الى القرابة . إن الأصول والأنساب عرضة للزمن والطبيعة ، تقارب بينها القرون وتفعل فيها الجواء حتى يصبح تحليلها وتمييزها وراء العلم وفوق الطاقة. فاذا قلنا فلان عربي أوفرنسي أوتركي فانما نعني بهذه النسبة انطباعه بالخصائص الثقافية والاجتماعية لهذا الشعب، كاللغة والأدب والأخلاق والهوى والدين .
فبأيّ شيئ من هذا يحتج اخواننا الجدليون وهم لو كشفوا في أنفسهم عن مصادرالفكرومنابع الشعور ومواقع الإلهام لرأواالروح العربية تشرق في قلوبهم دينا، وتسري في دمائهم أدبا ، وتجري على ألسنتهم لغة، وتفيض في عواطفهم كرامة.
لانريد أن نحاجّهم بما قرره العلماء المحدثون من أن المصرية الجاهلية تمت الى العربية الجاهلية.
وكفى بالواقع المشهود دليلا وحجة. هذه مصرالحاضرة تقوم على ثلاثة عشرقرنا وثلثا من التاريخ العربي نسخت ما قبلها كما تنسخ الشمس الظلال. وذلك ما ضي مصرالحي الذي يصيح في الدم ، ويثور في الأعصاب، ويد فع بالحاضرالى مستقبل ثابت الأساس عزيزالدعائم.
أزهقوا ان استطعتم هذه الروح، وامحوا ولو بالفرض هذا الماضي، ثم انظروا ما يبقي في يد الزمان من مصر. هل يبقى غير أشلاء من بقايا السوط ، وأشباح طائفة ترتل " كتاب الأموات" وفنون خرافية شغلها الموت حتى أغفلت الدنيا وأنكرت الحياة ؟ وهل ذلك الآ الماضي الأبعد الذي تريدون أن يكون قاععدة لمصرالحديثة تصور بأ لوانه وتشدو بألحانه وتحيا أخيرا بروحه؟ ولكن أين تحسون ، بالله ،هذه الروح؟
ان أرواح الشعوب لاتنتقل الى الأعقاب الا في نتاج العقول والقرائح . فهل كشفتم بجانب الهياكل الموحشة والقبور الصم مكتبة واحدة تحدثكم عن بفلسفة كفلسفة اليونان ، وتشريع كتشريع الرمان ، وشعر كشعر العرب؟ أم الحق أن مصرالقديمة دفين فنيت روحه مع الآلهة ، وصحائف موت ذهب سرها مع الكهنة ، والخامد لا يبعث حياة، والجامد لا يلد حركة.
لاتسطيع مصر الاسلامية الا أن تكون فصلا من كتاب المجد العربي لأنها لاتجد مددا لحيويتها ، ولا سندا لقوتها، ولاأساسا لثقافتها ، الاّفي رسالة العرب . أما أن يكون لأدبها طابعه ولفنها لونه، فذلك قانون الطبيعة .
وقديما كان لون الأدب في الحجازغيره في نجد ، وفي العراق غيره في الشام، وفي مصرغيره في الأند لس ،دون ان يسبق هذاالتغاير دعوة ولا أن يلحق بها أثر.
انشروا ما ضمنت القبورمن رفات الفراعنة، واستقروا من الصخورالصلاب أخبار الهالكين ، ثم تحدثوا أطيلوا الحديث عن ضخامة الآثار وعظمة النيل وجمال الوادي وحال الشعب، و لكن اذكروا دائما أن الروح التي  تنفخونها في مومياء فرعون هي روح عمرو، وأن اللسان الذي تنشرون به مجد مصرهو لسان مضر،  وأن القيثار الذي توقعون عليه ألحان النيل هو قيثار امرئ القيس ، وأن آثار العرب المعنوية التي لاتزال تعمّر الصدور وتملأ السطور وتغذّي العالم ، هي أدعى الى الفخر وأبقى على الدهر وأجدى على الناس من صفاح الذهب وأكوم الحجارة.
وانما تتفاضل الأمم بما قدمت للخليقة من خير ، وتتفاوت الأعمال بما أجدت على الانسان من نفع . أليس الخزّان خيرا من الكرنك ، والازهر أفضل من الأ هرام ، ودار الكتب أنفس من دار الآثار؟
وبعد ، فان ثقافتنا الحديثة انما تقوم في روحها على الإسلام والمسيحية، وفي أدبها على الآداب العربية والغربية ، وفي علمها على القرائح الأوروبية الخالصة، أما ثقافة البردي فليس يربطها بمصر العربية رباط ،لابالمسلمين ولا بالأقباط

Friday, February 20, 2015

قرآن الفجر



قرآن الفجر
كنت في العاشرة من سنّي وقد جمعت القرآن كله حفظا وجوّدته بأحكم القراءة، ونحن يومئذ في مدينة دمنهور،عاصمة البحيرة. وكان أبي رحمه الله كبير القضاة الشرعيين في هذا الإقليم . ومن عادته أنه كان يعتكف كل سنة في أحد المساجد عشرة الأيام الأخيرة من شهررمضان ، يدخل المسجد فلا يبرحه الا ليلة عيد الفطر بعد انقضاء الصوم. فهناك يتأمل ويتعبد، ويهجر تراب الدنيا فلا يمشي عليه ،وتراب المعاني الأرضية فلا يتعرض له . ويدخل في الزمن المتحرر من أكثر قيود نفس، ثم لا يرى من الناس الاّ هذا النوع المدعوّ الى دخول المسجد بدعوة القوة السامية، الساجد بين يديه ربه ليدرك معني الجلال الأعظم.
وماهي حكمة هذه الأمطنة التي تقام لعبادة الله؟ إنها أمكنة قائمة في الحياة، تشعرالقلب البشريّ في نزاع الدنيا أنه في إنسان لافي بهيمة.
وذهبت ليلة فبت عند أبي في المسجد، فلما كنا في جوف الليل الأخيرأيقظني للسحور، ثم أمرني فتوضأت لصلاة الفجر وأقبل هو على قراءته، فلما كان السحرالأعلى هتف بالدعاء المأثور: اللهم لك الحمد ، أنت نورالسموات والأرض ، ولك الحمد، أنت بهاء السموات والأرض، ولك الحمد ، أنت زين السموات والأرض، ولك الحمد ، أنت قيام السموات والأرض ومن فيهن ومن عليهن ، أنت الحق ومنك الحق ..الى آخر الدعاء.
وأقبل الناس الى المسجد، فانحدرنا من تلك العلية التي يسمونها " الدكة" وجلسنا ننتظر الصلاة. وكانت المساجد في ذلك العهد تضاء بقناديل الزيت، في كل قنديل نور يرتعش خافتا ضئيلا كأنه بعض معاني الضوء لا الضوء نفسه . فكانت هذه القناديل والظلام حولها تلوح كأنها شقوق مضيئة في الجو، فلا تكشف الليل ولكن تكشف أسراره الجميلة . وتبدو في الظلمة كأنها تفسير ضعيف لمعنى غامض يومئ اليه ولا يبيّنه، فما تشعر النفس الاّ أن العين تمتدّ في ضوئها من المنظور الى غير المنظور كأنها سرّ يكشف عن سرّ. فكان الجالس في المسجد وقت السحر يشعر بالحياة كأنها مخبوءة ، ويحس في المكان بقايا أحلام ، ويسري حوله ذلك المجهول الذي سيخرج منه الغد. وفي هذا الظلام النورانيّ تنكشف له أعماقه منسكبا فيها روح المسجد، فتعتريه حالة روحانية يستكين فيها للقدر هادئا وادعا.
ثم يشعر بالفحر في ذلك الوقت عند اختلاط آخرالظلام بأول الضوء شعورا نديا كأن الملائكة قد هبطت تحمل سحابة رقيقة تمسح بها على قلبه .
لا أنسى أبدًا تلك الساعة ونحن في جو المسجد، والقناديل معلقة كالنجوم في الفلك ، وتلك السرج ترتعش فيها ارتعاش خواطر الحب، والناس جالسون ،عليهم وقار أرواحهم ، ومن حول كلّ انسان هدوء قلبه.
لا أنسى أبدا تلك الساعة وقد انبعث في جو المسجد صوت غرد رخيم ، يشق الليل في مثل رنين الجرس تحت الأفق العالي وهو يرتل هذه الآيات من آخرسورة النحل.
(ادع الى سبيل ربك با لحكمة  والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ، إن ربك هوأعلم بمن ضل عن سبيله ، وهوأعلم بالمهتدين . وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين . واصبر وما صبرك إلاّ بالله ،ولا تحزن عليهم ، ولا تك في ضيق مما يمكرون. إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)
وكان هذا القارئ يملك صورته أتم ما يملك ذوالصوت المطرب، فكان يتصرف به أحلى مما يتصرف المغني في انغامه. كان صوته على ترتيب عجيب في نغماته ، يجمع بين قوة الرقة وبين الرقة القوة، ويضطرب اضطرابا روحانيا كا لحزن اعتراه الفرح على فجأة ، يصيح الصيحة تترجح في الجو وفي النفس وتترد في المكان وفي القلب . ويتحول بها الكلام الإلهي الى شيئ حقيقي ، يلمس الروح فاذا هي كالزهرة التي مسحها الندى.
وسمعنا القرآن غضّا طريا كأوّل ما نزل به الوحي، فكان هذا الصوت الجميل يدور في النفس كأنه بعض السرّ الذي يدور في نظام العالم، وكان القلب وهي يتلقى الآيات كقلب الشجرة يتناول الماء ويكسوها منه.
واهتزالمكان والزمان كأنما تجلّى المتكلم سبحانه وتعالى في كلامه ، وبدا الفجر كأنه واقف يستأذن الله أن يضيئ من هذا النور.
وكنا نسمع قرآن الفجر وكأنما محيت الدنيا التي في الخارج من المسجد، فلم يبق على الأرض إلا الإنسانية الطاهرة ومكان العبادة.
وهذه هي المعجزة الروح متى كان الإنسان في لذة روحه على طبيعته الأرضية.
أما الطفل الذي كان في يومئذ فكأنما دعي بكل ذلك ليحمل هذه الرسالة ويؤدّيها الى الرجل الذي يجيئ فيه من بعد. فأنا في كل حالة أخضع لهذا الصوت:
(ادع الى سبيل ربك ) وأنا في كل ضائقة أخشع لهذا الصوت : "واصبر وما صبرك إلا بالله"

Monday, February 16, 2015

اسماعيل والناموس

اسماعيل والناموس
بين الطفولة والشيخوخة جاذبية غربية وتشابه عجيب. كلاهما قريب من هذا العالم المجهول الذي جئنا منه وسنعود اليه . وكلاهما قليل التقدير للحياة، يكاد لايهتم بها ، هذا عن جهل بها، وذالك عن علم وتجربة ، هذا يبسم للحياة ابتسام الطرب والأمل والفرح ، وذاك يبسم لها ابتسام السخر واليأس والألم .
وكثير ما نرى في خلق الشيخ ما يقرّبه من الطفولة، كأنما الحلقة قد تمت وعادت الى مبدئها من جديد. وكثيرا ما يتصادق الشيخ والطفل صداقة حلوة طاهرة عميقة . فاذا كانت هذه الصداقة تقوّيها رابطة أوثق كرابطة النسب أو القرابة كا نت أعمق وأدوم.
كنت أفكر في هذا وأنا جالسة الى مكتبي أقرأ درسي. وكانت جدتي شغلي الشاغل منذ عدت من المدرسة . فقد عدت لأجدها نا ئمة تشكو شيئا من الصداع . تعودت أن أرى جدتي دائما بعد عودتي من المدرسة لأقبلها قبلة كانت اشتيا قا لها أوّل عهدي بالمدرسة وبفراق جدتي، ثم أصبحت بعد أن صار لي صاحبات آنس اليهن والى لعبهن عادة اعتدتها لا أرى لها سبباً، ولكني اذا تركتها يوماً شعرت لتركها بشيء ولو قليل من الضيق.
دق الجرس ، فأ سرعت الى جدتي أسألها ما تريد ، فسألتني وقد ظنتني خادمها هل عادت البنت من المدرسة؟ فأسرعت نحوها أقبلها كعادتي . وأضاءت جدتي النور لتعرف الوقت من ساعتها المعلقة على الحائط . ثم قالت :ألا تنامين ، انها الثامنة ليلاً؟ قلت : نعم ، بعد أن تقصي علي قصة أو حديثا عن ما ضيك . قالت : استعدي لنومك ، وتعالي ريثما أتذكر لك حديثا يعجبك ، فقد كبرت الآن وأصبحت أحاديثي لك طفلة لا يلذ لك الآن الاّ أقلها.
في ظلمة غرفة جدتي – وقد جلست الى جانبها على السرير – أخذت جدتي تقول:
كنا يا ابنتي من زمن بعيد في  "رشيد" كان جدك  رحمه الله قد نقل مع جزء من الجيش ليعمل هناك في حصونها . وكان منزلنا هناك معروفا لمكانة المرحوم زوجي . وكان أعيان "رشيد" وقد أصبحوا أصدقاء جدك بعد أن قمنا زمنا ، يزورونه كثيرا ويزورهم ، ويجتمع بهم في منزل أحدهم كلما استطاعوا أن يجتمعوا. كان بين هؤلاء رجل ثريّ يملك منزلا فخما وحديقة واسعة مليئة بالفواكه والخضروات . في هذه الحديقة كثيرا ما ذهب أولادي ليلعبوا مع أبناء صاحب الدار.
وكان ولدي اسماعيل أكثرأولادي حبا للّعب ، ولكنه كان ميّالا الى الإتلاف في لعبه . ولكم نهيته ، ولكم حاولت معه باللين حينا وبالشدة كثيرا، فلم أفلح معه في كثيرأو قليل.
كنا يا ابنتي لانعرف نظريّات في التربية ولاقواعد ، وانما كنا ننقاد في تربية أبنائنا بفطرتنا، وكانت العصا عندنا أكبر دواء لكل من أدواء الطفولة الخلفية والنفسية.
ذهب ابني اسماعيل كعادته يلعب في حديقة هذا الثريّ، ولكنه كان منذ أيام يحاور البستاني يحاوره ليصل الى الكروم . كان العنب لا يزال فجا، ولكن للأطفال ولع خاص بالفاكهة الفجة، لعله قلة اصطبار عليها حتى تنضج. وحاول البستاني أن يلهي اسماعيل بفاكهة أخرى وبوعود عن العنب يوم ينضج فلم يفلح معه . وأخيرا توعّده مقسما أنه اذا صعد الى الكروم وقطع فرعا واحدا فسيكشوه اليّ.
ولكن اسماعيل اذا أراد لعبا أو فسادا فلن يعوقه شيء مهما عظم. فغافل البستاني وتسلق السور، فاذا ما كان فوق الكروم كسر وقطع وأكل وأفسد، ما شاء له الكسر والقطع والأكل والإفساد. وما إن همّ بالنزول حتى لمحه البستاني فتلقاه نازلا على كتفيه وحمله وسار به اليّ.
وما كاد يصل البستاني ويشكواسماعيل ، وما كدت أهمّ لأحضر العصا أضربه بها، حتى جاءني خادم صاحب الدار يقول ان سيده بالباب جاء بنفسه يستحلفني ألاّ أمد الى اسماعيل يدا.
لن تتصوري يا ابنتي مقدار غيظي ساعتها ، فهذا ابني يتلف ما ل الغير، بل مال الصديق ، بعد أن حاولت معه كثيرا لأصرفه عن عادة الإتلاف هذه، ولكن هذا صديق زوجي يستحلفني ألاّ أضربه ، فماذا يكون ردّي عليه ؟ لن يكون الاّ القبول. فقبلت وانصرف السيد وخادمه ، وظللت اغلى من غيظي أيّ عقاب أنزله بهذا الشيطان بعد أن أساء اليّ والى صديق زوجي؟
وفكّرت وفكّرت ، وأخيرا اهديت الى عقاب أعاقبه به دون أن أرجع فيما وعدت به الصديق:
كان الوقت عصرا، وكانت الشمس قد مالت الى المغيب. وكنا يا ابنتي في هذا الزمن لاننعم بكهرباء تريحنا ، بل كنا نعمد الى مصابيح تضاء بالبترول لنضيئها واحداوحدا، ثم نعلّقها في عمود أو على الحائط ليشع نورها على المكان كله .
وكان مصباح خاص تعلقه في عمود وسط صحن الدار لينير لنا الممرات والمنافع. وما كادت الخادم ترفع المصباح الى مكانه من العمود حتى اتّقدت الفكرة في رأسي اتّقاد الشرارة المفاجئة . ونظرت الى اسماعيل وقلت له : سترى عقابك يا لعين بعد العشاء.
وأكل كل من بالدار واستعد واللنوم. فعمد ت الى اسماعيل وعريته وشددته الى هذا العمود تحت المصباح الذي يتهافت على نوره الناموس.
وصرخ اسماعيل ، والحق يا ابنتي أني ام أطق سماع صراخه . وكان جدك متغيبا عن منزله في مهمة من مهامّ الجيش ، فأغلقت أبواب الدار كلها، ودخلت غرفتي أحاول النوم.
كان صراخ اسماعيل عاليا متواصلا، ثم سكت قليلا قليلا حتى لم يعد الاًّ صرخة خافة قصيرة من آن لآن. عجبت لأمره وقلت لعله ملّ الصراخ فاستراح.
جاهدت وجاهدت بين قلبي وعقلي ، هذا ينكرعملي ويهيج شفقتي، وذاك يقول صبرا إن لم يكن العقاب شديدا عاد الى ذنبه ، وفي العودة عذاب لك وله . وأخيرا انتصر قلبي وخرجت من غرفتي عازمة على فكّ اسماعيل وغسله لينام. وكم كانت دهشتي وكم كان احتقاري لنفسي .
كان اسماعيل مشدودا الى العمود وعلى الأرض جلست خادمه " صباح" وقد بلل الدمع ثوبها ووجهها وصدرها وهي لا اتستطيع مسحه لأن يديها كانتا تهشّان الناموس عن جسم اسماعيل ."منشة" في كل يد تهشّ وتهشّ ، والدمع يسيل، وصوتها الخا فت المتألم يردد كل حين .
معليهشي يا سيدي ، الليل قرب ينتهي ، واسماعيل لا يجيبها الابقوله : هشيّ يا صباح والنبي، هشيّ هنا...وهنا.

Friday, February 13, 2015

الشريك



الشريك
يقول العالمون بتاريخ الأسراللبنانية إن أكثراللبنا نيين في وسط  لبنان وفي طرفه الجنوبي نزحوا قديما من الشمال، وخصوصا من جبيل، وما سألت لبنانيا أو بيروتيا جبلي المحتد: من أين أجدادك؟ إلا وأجابني:أصلا من جبيل. وإن أنت سألت أحد المتضلّعين بالعلوم الفنييقية والتاريخ الفينيفي، إن سألت هذا الفاضل : من أين نحن ؟ قال لك فورا: كلنا من جبيل.
تباركت جبيل وتباركت ثمرة بطنها. إنها على ما يظهر معد الجنس اللبنانيّ. وقد يكتشف غدا الأثريون فيما ينقبّون، تحت الأرض البكر، على الشواطئ المجيدة، وبين الصخورالخالدة، ما يمكنهم من الإثبات أن جبيل هي مهد الجنس الإنسانيّ.
حسبي اليوم  ما هو ينبو ع الحبور لإخواني المعاصرين ، فانّي مثلهم في التاريخ الحديث- إني من حبيل. كيف لا وقد نزح أجدادي منذ مائتي سنة من قلب تلك البلاد ، وتوطّنوا بيت شباب ومزارعها، القائم بعضها على كتف الوادي الذي أصبح يدعي بوادي "الفريكة"وقد كان جدي لأبي،رحمهما الله ، يحنّ دوما الى تلك البلاد، ويكثر من الرحلات اليها، فيقبل ترابها بعد مشقات السفر، ويعود الى أهله بأحمال من خيرها- من تبغها المشهور وتينها المجفف - وبقطيع من مواشيها.
كان جدي إذن تاجرا، وكانت التجارة في تلك الأيام تقوم على ا"لأغلب بالمقايضة. وكنت تجارة جدي ، مثل سائرالتجارات، مصدرا للكسب، وعرضة للخسارة. وكان الكسب وكان الدين ،وكان على ما يظهر العجز لدى  بعض الجبيليين . فأضا جدي الأرض الى مكاسبه ، وعاد كاأجداده ملاّ كا في جبيل.
وقد رحلت مرة ، مثل جدي ووالدي ، الى بلاد جبيل أستضي خبر ذلك العقار. وصلت الى نهر ابراهيم في عربة أثريّة عليها جلال العتق والقدم ، يجرها حصا نان من ضوامر الخيل الأصيلة، هزيلان جائعان حزينان . وهناك وقفنا . كان ذلك في العهد السعيد السابق لعهد البنزين والحديد. ولم يكن في تلك الناحية من الجبل طريق حتىّ للعربات. وما كان بجوار النهر لاخيل، ولا بغال ، فاستأجرت ما وجدت حمارا ابن أتان . وبما أنّ صاحبه لم يكن يعرف الطريق استأجر كذلك دليلا.
ورحنا نصعد في وادي نهر ابراهيم، وادي أدونيس ، في موكب فينيقي قروي، يتوسّطه السيد راكب الحمار، ويتقدّمه الدليل، ويحمي المؤخرة الحمّار. وبيده قضيب من الصفصاف.
وكان الحمّار شغفا بصوته ، فأطلقه بالمواليا، فأزعج الدليل، فأسكتّه .ثم خطر للدليل أن يقوم مقامه في إطرابي، فكان صوته أنكر من صوت الحمّار، فأسكتّه ورحنا نصعد في ذلك الجبل ساكتين، حتّى وصلنا الى المكان الذي يشرف على البطحاء المدفون فيه كنز العائلة.
نزلنا في العقبة ماشين كلّنا. نسوق الحمار أمامنا ، حتى بلغنا البطحاء، فأعدت تنظيم الموكب، إكراما لأهل القرية، وخصوصا " للشريك" الذي كان يفاخرهم "معلّميه" أي نعم ، استأنفت الركوب وأمشيت الدليل أمامي والحمار ورائي، وسرنا بهذه الأبّهة الى قرية الحصون ، المحصن فيها الكنز العظيم.
وهناك نزلنا على" الشريك " فرحب بنا ترحيب مكمود لامسعود، ولكن " الشريكة " امرأته ذبحت  لنا الذبيحة  دجاجة فينيققيّة العمر ، وجعلتها بيت القصد لمأدبة فتحت بزيتون من أرضنا وختمت بجبن من ضرع بقرتنا .
ثم جاء أهل القرية يتقدّمهم الكاهن مسلّمين مرّحبين ومتفرّجين ، سألونا عن أهلهم في أمريكا ، وعن الشرانق في جها تنا ، وعن أسعارالقمح والشعير وعن الصابون والزيت والزيتون ، وعن البقر وسوقها والمعزي ومرعاها، وعن وعن .
فأحرجو حتى الدجاجة في بطن " الفيلسوف الفصيح" فاضطربت وكادت تصيح .
وقرأت الشريكة النبيهة في عيني الأمنية القصوى ، ففرشت لي على السطح تعت خيمة من الشيح كان لا يزال طريا طيّب الأريج- فرشت فراشين ، أكرمها الله الواحد فوق الآخر. ومن غير الساحر يسطتيع أن يعمل من الفراشين فراشا ناعما وثيرا؟ بيد أنّي كنت شاكرا للشيح طيبه ، ورحت أستنشقه كمن يتمنّى سكرة منه ، فينام إذ ذاك على الحجارة .
ولكن النجوم أفسدت على الشيح عمله، فقد كانت الليلة صافية الأديم ، وكانت الكواكب كلها في أصفى وأبهج أحوالها . فبتّ أرعى النجوم . كما يقول الشاعر ، وأصحّح ما تعلّمته من علم الفلك في ليالي لبنان الصافية. وكنت بعد كل شطحة من شحات الخيال أعود الى حلمي الذهبي ، فأقول لنفسي مطمئنا : غدا يدفع الشريك ما تأخّر من حسابه – قسمتنا من ريع الأرض مدة عشر سنوات – فأعود الى"الفريكة" كما كان يعود أجدادي من رحلاتهم ، غانما ظافرا.
وجاء الصباح البسّام ، مبدالأحلام ،فأفضى الشريك الىّ بأخباره التي بدأت وانتهت بالويل والبلاء. وكانت بلاياه، يا معلمي ، من الزمان ومن الحكومة ومن المرابين ومن الجيران المعتدين ، يا معلمي ...
فهمت بالاستقراء والاستنتاج قبل أن فاه بيت القصيد ، أنّ الكنز قد ذاب، ولا جداء في السؤال عن قسمة أو حساب . ولكن المخيّلة خذلتني ، فما ما شتني الى اقصى حدود النكبة.
فبعدأن شربنا القهوة وأكلنا العنب والتسين ،وجاءت الشريكة بنارجيلة استعارتها من بيت كاهن القرية ، كشف الشريك الستار عن كل مابه ، فعلمت أنّ البيت مرهون والملك غارق بالديون  والدهر ، يا معلمي ، ملعون ابن ملعون .
فهلا تشبّهت أن بوالدي الكريم وبجدي الأكرم ، رحمهماالله ، فرفعت يدا الدائن عن البيت ، وانقذت الملك من برائن المرابين ؟
وقد أقسم الشريك بالله وبمريم العذراء وبجميع القديسين أنه يعيد اليّ المال بعد سنتين ، ويعيد الأرض الى سابق خيرها وخصبها ، فتجيئنا إذ ذاك قسمتنا في كل موسم – وحياة الله ، يا معلمي ، وحقّ جميع القدسيين .
ركبت حماري وسقته مسرعا صوب العقبة ، فعدا الدليل والحمار وراثي، فصحت بهما –المواليا، المواليا . فرفعا رأسيهما معا بالغناء فاستعذبته ،والله في تلك الساعة ، وشاركت به.